كان بين يحيى بن خالد وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها، وسبب العداوة بينهما أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك محبةً عظيمةً، بحيث إن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون: إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان طويل والحقد في قلوبهما، فاتفق أن الرشيد قلد ولاية أرمينية لعبد الله بن مالك الخزاعي وسيره إليها، فلما استقر في يختها قصده رجل من أهل العراق كان فيه فضل وأدب وذكاء وفطنة، إلا أنه ضاق ما بيده وفني ماله واضمحل حاله فزور كتابًا على يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر إليه في أرمينية.
فلما وصل إلى بابه سلم الكتاب إلى بعض حجابه، فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، ففتحه وقرأه وتدبره فعلم أنه مزور، فأمر بإحضار الرجل فلما تمثل بين يديهِ دعا له وأثنى عليه وعلى أهل مجلسه، فقال له عبد الله بن مالك: ما حملك مع بُعد المشقة على مجيئك إليَّ بكتاب مزور، ولكن طب نفسًا، فإننا لا نخيب سعيك، فقال الرجل: أطال الله بقاء مولانا الوزير إن كان ثقل عليك وصولي فلا تحتجّ في منعي بحجة، فإن أرض الله واسعة، والرازق حي، والكتاب الذي أوصلته إليك من يحيى بن خالد صحيح غير مزور، فقال عبد الله: أنا أكتب كتابًا لوكيلي ببغداد وآمره فيه أن يسأل عن حال هذا الكتاب الذي أتيتني به فإن كان ذلك حقٍّا صحيحًا غير مزور قلدتك إمارة بعض بلادي وأعطيتك مائتي ألف درهم مع الخيل والنجب الجليلة، وإن كان الكتاب مزورًا أمرت بأن تضرب مائتي خشبة وأن تحلق لحيتك، ثم أمر عبد الله أن يُحمل إلى حجرة وأن يجعل له فيها ما يحتاج إليه حتى يحقق أمره، ثم كتب كتابًا إلى وكيله ببغداد مضمونه: إنه قد وصل إليَّ رجل ومعه كتاب يزعم أنه من يحيى بن خالد وأنا أسيءُ الظن بهذا الكتاب، فيجب أن لا تهمل هذا الأمر بل تمضي بنفسك وتتحقق أمر هذا الكتاب وتسرع إليَّ برد الجواد لأجل أن نعلم صدقه من كذبه.
فلما وصل إليه الكتاب ببغداد ركب من ساعته ومضى إلى دار يحيى بن خالد، فوجده جالسًا مع ندمائه وخواصه، فسلم عليه وسلم إليه الكتاب، فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل: عد إليَّ من الغد حتى أكتب لك الجواب، ثم التفت إلى ندمائه بعد انصراف الوكيل وقال: ما جزاء من تحمل عني كتابًا مزورًا وذهب به إلى عدوِّي، فقال كل واحد من ندمائه مقالًا، وجعل كل واحد منهم يذكر نوعًا من العذاب، فقال لهم يحيى: قد أخطأتم فيما ذكرتم، وهذا الذي أشرتم به من دناءة الهمم وخستها، وكلكم تعرفون منزلة عبد الله من أمير المؤمنين، وتعلمون ما بيني وبينه من الغضب والعداوة، وقد سَبَّبَ الله تعالى هذا الرجل وجعله واسطة في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليخمد نار الحقد من قلوبنا وهي تتزايد من مدة عشرين سنة، وتصلح واسطته شئوننا، وقد وجب عليَّ أن أفي لهذا الرجل بتحقيق ظنونه وإصلاح شئونه وأكتب له كتابًا إلى عبد الله بن مالك الخزاعي مضمونه: أن يزيد في إكرامه ويستمر على إعزازه واحترامه، فلما سمع الندماء ذلك دعوا له بالخيرات وتعجبوا من كرمه ووفور مروَّءتِهِ. ثم إنه طلب الورقة والدواة وكتب إلى عبد الله كتابًا بخط يده مضمونه:
بسم الله الرحمن الرحيم،
وصل كتابك أطال الله بقاك وسررت بسلامتك وابتهجت باستقامتك وشمول سعادتك، وكان ظنك أن ذلك الرجل الحر زوَّر عني كتابًا ولم يحمل مني خطابًا، وليس الأمر كذلك، فإن الكتاب أنا كتبته وليس بمزور ورجائي من إكرامك وإحسانك وحسن شيمتك أن تفي لذلك الرجل الحر الكريم بأمله وأمنيته وترى له حق حرمته وتوصله إلى غرضه، وأن تخصه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان، ومهما فعلته فأنا المقصود به والشاكر عليه.
ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه إلى الوكيل، فأنفذه الوكيل إلى عبد الله، فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر ذلك الرجل وقال له: أي الأمرين اللَّذَين وعدتك بهما أحب إليك لأحضره لك بين يديك، فقال الرجل: العطاء أحَّبُ إليَّ من كل شيء، فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية خمسة منها بالجلال الحرير وخمسة بمروج المواكب المحلاة، وبعشرين تختًا من الثياب وعشرة من المماليك ركاب خيل، وما يليق بذلك من الجواهر الثمينة، ثم خلع عليه وأحسن إليه ووجهه إلى بغداد في هيئة عظيمة.
فلما وصل إلى بغداد قصد دار يحيى بن خالد قبل أن يصل إلى أهله وطلب الإذن في الدخول عليه، فدخل الحاجب إلى يحيى وقال له: يا مولاي إن ببابنا رجلًا ظاهر الحشمة جميل الخلقة حسن الحال كثير الغلمان يريد الدخول عليك، فأذن له بالدخول، فلما دخل عليه قبَّل الأرضبين يديه، فقال له يحيى: من أنت، فقال له الرجل: أيها السيد أنا الذي كنت ميتًا من جور الزمان فأحييتني من رمس النوائب وبعثتني إلى جنة المطالب، أنا الذي زوَّرت كتابًا عنك وأوصلته إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال له يحيى: ما الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك؟ فقال: أعطاني من يدك وجميل طويتك وشمول نعمك وعموم كرمك وعلو همتك وواسع فضلك حتى أغناني وخولني وهداني، وقد حملت جميع عطيته ومواهبه، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يدك، فقال له يحيى: إن صنيعك معي أجمل من صنيعي معك، ولك عليَّ المنة العظيمة واليد البيضاء الجميمة، حيث بدلت العداوة التي كانت بيني وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة والمودة، فها أنا أهب لك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك، ثم أمر له من المال والخيل والتخوت بمثل ما أعطاه عبد الله، فعادت لذلك الرجل نعمته كما كانت بمروءة هذين الكريمين.
فلما وصل إلى بابه سلم الكتاب إلى بعض حجابه، فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، ففتحه وقرأه وتدبره فعلم أنه مزور، فأمر بإحضار الرجل فلما تمثل بين يديهِ دعا له وأثنى عليه وعلى أهل مجلسه، فقال له عبد الله بن مالك: ما حملك مع بُعد المشقة على مجيئك إليَّ بكتاب مزور، ولكن طب نفسًا، فإننا لا نخيب سعيك، فقال الرجل: أطال الله بقاء مولانا الوزير إن كان ثقل عليك وصولي فلا تحتجّ في منعي بحجة، فإن أرض الله واسعة، والرازق حي، والكتاب الذي أوصلته إليك من يحيى بن خالد صحيح غير مزور، فقال عبد الله: أنا أكتب كتابًا لوكيلي ببغداد وآمره فيه أن يسأل عن حال هذا الكتاب الذي أتيتني به فإن كان ذلك حقٍّا صحيحًا غير مزور قلدتك إمارة بعض بلادي وأعطيتك مائتي ألف درهم مع الخيل والنجب الجليلة، وإن كان الكتاب مزورًا أمرت بأن تضرب مائتي خشبة وأن تحلق لحيتك، ثم أمر عبد الله أن يُحمل إلى حجرة وأن يجعل له فيها ما يحتاج إليه حتى يحقق أمره، ثم كتب كتابًا إلى وكيله ببغداد مضمونه: إنه قد وصل إليَّ رجل ومعه كتاب يزعم أنه من يحيى بن خالد وأنا أسيءُ الظن بهذا الكتاب، فيجب أن لا تهمل هذا الأمر بل تمضي بنفسك وتتحقق أمر هذا الكتاب وتسرع إليَّ برد الجواد لأجل أن نعلم صدقه من كذبه.
فلما وصل إليه الكتاب ببغداد ركب من ساعته ومضى إلى دار يحيى بن خالد، فوجده جالسًا مع ندمائه وخواصه، فسلم عليه وسلم إليه الكتاب، فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل: عد إليَّ من الغد حتى أكتب لك الجواب، ثم التفت إلى ندمائه بعد انصراف الوكيل وقال: ما جزاء من تحمل عني كتابًا مزورًا وذهب به إلى عدوِّي، فقال كل واحد من ندمائه مقالًا، وجعل كل واحد منهم يذكر نوعًا من العذاب، فقال لهم يحيى: قد أخطأتم فيما ذكرتم، وهذا الذي أشرتم به من دناءة الهمم وخستها، وكلكم تعرفون منزلة عبد الله من أمير المؤمنين، وتعلمون ما بيني وبينه من الغضب والعداوة، وقد سَبَّبَ الله تعالى هذا الرجل وجعله واسطة في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليخمد نار الحقد من قلوبنا وهي تتزايد من مدة عشرين سنة، وتصلح واسطته شئوننا، وقد وجب عليَّ أن أفي لهذا الرجل بتحقيق ظنونه وإصلاح شئونه وأكتب له كتابًا إلى عبد الله بن مالك الخزاعي مضمونه: أن يزيد في إكرامه ويستمر على إعزازه واحترامه، فلما سمع الندماء ذلك دعوا له بالخيرات وتعجبوا من كرمه ووفور مروَّءتِهِ. ثم إنه طلب الورقة والدواة وكتب إلى عبد الله كتابًا بخط يده مضمونه:
بسم الله الرحمن الرحيم،
وصل كتابك أطال الله بقاك وسررت بسلامتك وابتهجت باستقامتك وشمول سعادتك، وكان ظنك أن ذلك الرجل الحر زوَّر عني كتابًا ولم يحمل مني خطابًا، وليس الأمر كذلك، فإن الكتاب أنا كتبته وليس بمزور ورجائي من إكرامك وإحسانك وحسن شيمتك أن تفي لذلك الرجل الحر الكريم بأمله وأمنيته وترى له حق حرمته وتوصله إلى غرضه، وأن تخصه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان، ومهما فعلته فأنا المقصود به والشاكر عليه.
ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه إلى الوكيل، فأنفذه الوكيل إلى عبد الله، فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر ذلك الرجل وقال له: أي الأمرين اللَّذَين وعدتك بهما أحب إليك لأحضره لك بين يديك، فقال الرجل: العطاء أحَّبُ إليَّ من كل شيء، فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية خمسة منها بالجلال الحرير وخمسة بمروج المواكب المحلاة، وبعشرين تختًا من الثياب وعشرة من المماليك ركاب خيل، وما يليق بذلك من الجواهر الثمينة، ثم خلع عليه وأحسن إليه ووجهه إلى بغداد في هيئة عظيمة.
فلما وصل إلى بغداد قصد دار يحيى بن خالد قبل أن يصل إلى أهله وطلب الإذن في الدخول عليه، فدخل الحاجب إلى يحيى وقال له: يا مولاي إن ببابنا رجلًا ظاهر الحشمة جميل الخلقة حسن الحال كثير الغلمان يريد الدخول عليك، فأذن له بالدخول، فلما دخل عليه قبَّل الأرضبين يديه، فقال له يحيى: من أنت، فقال له الرجل: أيها السيد أنا الذي كنت ميتًا من جور الزمان فأحييتني من رمس النوائب وبعثتني إلى جنة المطالب، أنا الذي زوَّرت كتابًا عنك وأوصلته إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال له يحيى: ما الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك؟ فقال: أعطاني من يدك وجميل طويتك وشمول نعمك وعموم كرمك وعلو همتك وواسع فضلك حتى أغناني وخولني وهداني، وقد حملت جميع عطيته ومواهبه، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يدك، فقال له يحيى: إن صنيعك معي أجمل من صنيعي معك، ولك عليَّ المنة العظيمة واليد البيضاء الجميمة، حيث بدلت العداوة التي كانت بيني وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة والمودة، فها أنا أهب لك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك، ثم أمر له من المال والخيل والتخوت بمثل ما أعطاه عبد الله، فعادت لذلك الرجل نعمته كما كانت بمروءة هذين الكريمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق