إعلان 10

الجمعة، 8 يوليو 2016

في العفو

أتي معن بن زائدة بأسرى فأمر بضرب أعناقهم، فقام غلام منهم فقال: أنشدك الله أيها الأمير أن لا تقتلنا ونحن عطاش، فقال: اسقوهم، فلما شربوا قال: ناشدتك الله أن قتلت ضيفانك، قال: أحسنت وخلى سبيلهم.

همّ الأزارقة بقتل رجل، فقال: أمهلوني لأركع، فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام، فخلوا سبيله لقوله تعالى: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ  الْحَرَامَ﴾.

ولما أتي عمر رضي الله عنه بالهرمزان أراد قتله، فاستسقى ماءً، فأتوه بقدح فأمسكه بيده فاضطرب، وقال: لا تقتلني حتى أشرب هذا الماء، فقال: نعم، فألقى القدح من يده، فأمر عمر بقتله، فقال: أو لم تؤمنني، وقلت: لا أقتلك حتى تشرب هذا  الماء، فقال عمر: قاتله الله أخذ أمانًا ولم نشعر به.
غضب رجل على عبده، فقال: أسألك بالله إن علمت أني لأطوع لك منك لله فاعفُ عني عفا الله عنك، فعفا عنه.

وقال رجل لأمير غضب عليه: أسألك بالذي أنت أذل بين يديه غدًا مني بين يديك إلَّا ما عفوت عني، فعفا عنه.

الذنب

أتي المنصور برجل أذنب فقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ فيَّ الإحسان؛ فعفا عنه.

قال الشعبي لابن بسرة وقد كلّمه في قوم حبسهم: إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم وإن حبستهم بحق فالعفو يكفهم، فأمر بإطلاقهم.

قال رجل لمعن: ما على المذنب أكثر من الرجوع فهل على من لم يذنب أكثر من الاعتذار.

وقال الرشيد لمذنب: لأضربنك حتى تقر بالذنب، فقال: هذا خلاف ما أمر الله تعالى به لأنه أمر أن يضرب الناس حتى يقروا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقر بالكفر، فخجل الرشيد وعفا عنه.

هشام والمدح

مدح رجل هشام بن عبد الملك، فقال: يا هذا إنه قد نُهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال: ما مدحتك ولكن ذكرتك نعم الله عليك لتجدد شكرًا، فقال هشام: هذا أحسن من المدح فوصله وأكرمه.

حاتم وإخوته

لما مات حاتم الطائي تشبه به أخوه فقالت له أمه: لا تتعبن فيما لا تناله، فقال: وما يمنعني وقد كان شقيقي وأخي من أمي وأبي، فقالت: إني لما ولدته كنت كلما أرضعته أبَى أن يرضع حتى آتيه بمن يشاركه فيرضع الثدي الآخر، وكنت إذا أرضعتك ودخل صبي بكيت حتى يخرج.

وكانت أخت حاتم سخية لا تبقي شيئًا، فحظر عليها إخوتها وحبسوها حتى ذاقت طعم الجوع والفقر، فظنوا أنها قد وجدت ألم الضيق والفقر فأطلقوها ودفعوا إليها صرَّة، فأتتها سائلة، فقالت: دونك الصرة فقد نابني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلًا أبدًا.

هشام بن عبد الملك والغلام

حصلت في عهد هشام مجاعة عظيمة، فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي - وكان غلاماً لم يتجاوز العاشرة من عمره-، فنظر هشام إلى حاجبه نظرة لائم في دخول درواس إليه وقال: أيدخل علي كل من أراد الدخول! وكان درواس مفوهًا فعلم أنه عناه، فقال درواس: يا أمير المؤمنين ما أخل لك دخولي عليك، ولقد شرفني ورفع قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر أحجموا عنه فإن أذنت في الكلام تكلمت، فقال هشام: لله درك تكلم، فما رأى صاحب القوم غيرك، فقال: يا أمير المؤمنين تتابعت علينا سنون ثلاث : أما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فانتقت المخ ومصت العظم ولله في أيديكم أموال فإن تكن لله فاعطفوا بها على عباد الله وإن تكن لهم فعلام تحجبونها عنهم؟! وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين، فقال هشام: لله أنت ما تركت واحدة من ثلاث، وأمر بمائة ألف دينار فقُسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين ألكل رجل من المسلمين مثلها، قال لا ولا يقوم بذلك بيت المال، فقال: لا حاجة لي فيما يبعث على ذمك، فلما عاد إلى داره أمر بذلك فبعث إليه فقسم تسعين ألف درهم في تسعة من أحياء العرب وأبقى عشرة آلاف درهم فبلغ ذلك هشامًا فقال: لله دره إن صنيعة مثله تبعث على الاصطناع.

المروءة والفقير

حُكِي أن أحد أصحاب المروءة كان له جار فقير، فبينما كان ذات يوم مارٍّا بدار ذاك الرجل إذ سمع ابنته تقول لأمها: يا أمي ليس عندنا الليلة ما نأكله، فقالت لها أمها: صبرًا لعل الله يشفق علينا فينقذنا من مخالب الجوع، فلما سمع الرجل ذلك بكى من الحنان، وقال لابنةٍ له: خذي هذه الدراهم إلى بيت فلان جارنا ولا تدعي أحدًا يراك أو يعلم بما تفعلين، فذهبت الابنة إلى بيت الفقير فرأت بنته في الباب فأعطتها الصرة وقالت ساترة وجهها: خذي هذه الدراهم، فسألتها عن اسمها فلم تجب، فعادت إلى أمها بتلك الصرة، فقالت لها: من أعطاك هذه؟ فقالت: لا أعلم لأن الذي دفعها إليَّ كان متنكرًا، فأخذت تدعو وأهل البيت لذلك الرجل المحسن الذي بعثه الله إليهم من حيث لا يدرون.

قيس بن سعد والأعرابي

قيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك، قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة فحضرزوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة فنحرها، وقال: شأنكم، فلما جاء الغد جاء بأخرى ونحرها، وقال: شأنكم، فقلت: ما أكلنا من التي نُحرت لنا البارحة إلا اليسير، فقال: إني لا أطُعم أضيافي الغاب، فأقمنا عنده أيامًا والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا في بيته مائة دينار وقلنا للمرأة: اعتذري لنا منه، ومضينا، فلما تواسط النهار إذا رجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام أعطيتمونا ثمن القرى، لتأخذنها وإلا طعنتكم برمحي، فأخذناها وانصرف.

الحجاج والشيخ

خرج الحجاج يومًا للتنزه فصرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فلاقى شيخًا من بني عجل فقال له: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من هذه القرية، قال: ما رأيكم بحكام البلاد، قال: كلهم أشرار يظلمون الناس ويختلسون أموالهم، قال: وما قولك في الحجاج، قال: هذا أنجس الكل، سوَّد الله وجهه ووجه من استعمله على هذه البلاد، قال الحجاج: أتعرف من أنا؟ فقال: لا والله، قال: أنا الحجاج، قال:وأنت تعرف من أنا، قال: لا، قال أنا زيد بن عامر مجنون بني عجل أصُرع كل يوم مرة في مثل هذه الساعة، فضحك الحجاج وأجازه.

الحجاج والرجل

خطب الحجاج فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة فإن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله، فقال: إن أقر بالجنون خليته، فقال: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني، فبلغ ذلك الحجاج فعفا عن صدقه.

إكرام ثلاثة أصدقاء مخلصين بعضهم بعضًا

نُقل عن الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا في الصداقة كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة وقد حضرالعيد، فقالت لي امرأتي: يا مولاي أمَّا نحن فقد نصبر على البؤس والشدة، وأمَّا صبياننا هؤلاء فقد تقطَّع قلبي عليهم حزنًا ورحمةً لأنهم يرون صبيان جيراننا ومعارفنا وقد تزينوا في العيد وهم فرحون، فلا بأس إذا احتلنا في ما يمكننا أن نصرفه في كسوتهم، فرأيت كلامها صوابًا وقد قطعت فؤادي من هذا الحديث، ففكرت في الحيلة وكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليَّ بما يمكنه ويحضره، فوجه إليَّ كيسًا فيه ألف درهم، فما استقر قراره حتى كتب لي صديقي الآخر يشكو إليَّ مثلما شكوت أنا إلى صديقي الهاشمي، فوجهت إليه بالكيس على حاله، وخرجت إلى المسجد وأنا مستحي من امرأتي، فلما دخلت عليها وقد علمت بما فعلت لم تعنفني، فبينما أنا كذلك إذ دخل عليَّ صديقي الهاشمي ومعه الكيس وهو باقٍ بختمه فقال: اصدقني عما فعلته بما وجهت به إليك، فأخبرته بالحكاية على حقيقتها، فقال: إنك أرسلت تطلب مني التوسعة وأنا والله ثم والله لا أملك شيئًا سوى هذا الكيس الذي بعثت به إليك، ثم إني بعدما أرسلته لك كتبت إلي صديقنا أسأله المواساة إن كان يمكنه فوجه إليَّ الكيس بذاته وهو بختمي وها أنا ذا أتيت به إليك، وبحيث إننا كلنا في ضيق ولا يوجد عند أحدنا غير هذا الكيس فهلم نقتسمه، ثم إنه فتحه وأخرج منه مائة درهم للمرأة وفرق علي كلٍّ منا أنا وصديقي ثلاثمائة ألف درهم وأخذ هو مثلنا ثلاثمائة، وبلغ المأمون ذلك فأرسل استدعاني وسألني عن القضية فشرحتها له كما هي، فاستدعى صديقي وأمر لكل منا بألفي دينار ولامرأتي بألف دينار.

ابن عامر والرجل

أراد ابن عامر أن يكتب لرجل بخمسين ألف درهم فجرى القلم بخمسمائة ألف درهم فراجعه الخازن في ذلك فقال: أنفذه فما بقي إلا نفاذه فإن خروج المال أحب إليّ من الاعتذار، فنظر إليه الخازن، فقال: إذا أراد الله بعبد خيرًاصرف القلم عن مجرى إرادة كاتبه إلى إرادته، وأنا أردت شيئًا وأراد الجواد الكريم أن يعطي عبده عشرة أضعافه، فكانت إرادة الله الغالبة وأمره النافذ.

جود ملك

قيل: إن الملك خسرو بن برويز كان يحب أكل السمك وكان يومًا جالسًا في المنظرة وزوجته عنده فجاءه صيادٌ وعنده سمكة كبيرة، وأهداها لخسرو ووضعها بين يديه، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت زوجته: بئس ما صنعت، فقال الملك: لم؟ فقالت: لأنك إذا أعطيت بعد هذا لأحد من حشمك هذا القدر قال: قد أعطاني مثل عطية الصياد، قال: لقد صدقت ولكن يقبح بالملوك أن يرجعوا في هباتهم وقد فات الأمر، فقالت زوجته: أنا أدبر هذا الحال، فقال: وكيف ذلك؟ فقالت: تدعو الصياد وتقول له: هذه السمكة ذكرٌ هي أم أنثى؟ فإن قال: ذكر، فقل: إنما طلبت أنثى، وإن قال: أنثى، فقل: إنما طلبت ذكرًا، فنودي الصياد فعاد، وكان الصياد ذا ذكاء وفطنة، فقال له خسرو: هذه السمكة ذكر أم أنثى، فقال له: هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى، فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم؛ فمضى الصياد إلى الخازن وقبض منه ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب كان معه وحملها على عنقه وهمَّ بالخروج فوقع من الجراب درهم واحد، فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه والملك وزوجته ينظران إليه، فقالت لخسرو: أرأيت خسة هذا الرجل وسفالته سقط منه درهم واحد، فألقى عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه ليأخذه غلام من غلمان الملك، فحرد خسرو من ذلك وقال: صدقت، ثم أمر بإعادة الصياد وقال له: يا ساقط الهمة لست بإنسان وضعت هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد وأسفت أن تتركه في مكانه، فقال الصياد: أطال الله بقاءك أيها الملك إنني لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على وجهه صورة الملك وعلى الوجه الآخر اسم الملك، فخيشت أن يأتي أحد بغير علمٍ يضع عليه قدميه فيكون ذلك استخفافًا باسم الملك وأكون أنا المؤاخذ بهذا، فعجب خسرو من كلامه واستحسن ما ذكره فأمر له بأربعة آلاف درهم، فعاد الصياد ومعه اثنا عشر ألف درهم، وأمر خسرو مناديًا ينادي لا يتدبر أحد برأي النساء، فإنه من تدبر برأيهن خسر درهمه.

خزيمة وعكرمة الفياض وجابر عثرات الكرام

كان في أيام خلافة سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد مشهورٌ بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة من الكرم حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يؤَاسيهم ويتفضل عليهم، فآسوه حينًا ثم ملُّوه، فلما لاح منهم ذلك أتى امرأته وقال لها: يا ابنة العم رأيت من إخواني غير ما عهدته فيهم وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم إنه أغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد جميعه وبقي حائرًا في أمره.
 وكان يومئذ عكرمة الفياض واليًا على الجزيرة. فبينما هو جالس في ديوانه وعنده جماعة من أهل البلد من معارفه إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فسألهم عكرمة عن حاله فقالوا له: إنه في أشقى حالٍ من الفقر وقد أغلق بابه ولزم بيته، فقال عكرمة الفياض: أفما وجد خزيمة بن بشر مواسيًا أو مكافيًا، فقالوا له: لا، فأمسك عكرمة عن ذلك، وكان بمنزلة عظيمة من الكرم وسمِّي الفياض لزيادة كرمه وجوده، فانتظر إلى الليل وعمد إلى أربعة آلاف دينار جعلها في كيس ثم ركب دابته وخرج سرٍّا من عند أهله لا يصحبه إلا غلام واحد يحمل المال، فلم يزل سائرًا حتى وصل إلى باب خزيمة، فنزل عن دابته إلى ناحية وأمسكها لغلامه وأخذ منه الكيس وأتى به وحده إلى الباب وقرعه، فخرج خزيمة فقال له عكرمة وقد أنكر صوته: خذ هذا أصلح به شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلًا فوضعه وقبض على ذيل عكرمة وقال له: أخبرني من أنت جعلت فداك؟ فقال له عكرمة: ما جئتك في مثل هذا الوقت وأريد أن تعرفني، فقال له خزيمة: والله لا أقبله ما لم تخبرني من أنت، فقال له عكرمة: أنا جابر عثرات الكرام، فقال خزيمة: زدني إيضاحًا، فقال له عكرمة: لا والله، وانصرف، فدخل خزيمة بالكيس إلى امرأته وقال له: أبشري فقد أتى الله بالفرج فقومي أسرجي، فقالت: لا سبيل إلى السراج لأنه ليس لنا زيت، فبات خزيمة يلمس الكيس فيجد خشونة الدنانير، ولما رجع عكرمة إلى منزله سألته امرأته فيمَ خرج بعد هدأة من الليل منفردًا، فأجابها: ما كنت لأخرج في وقت كذا وأريد أن يعلم أحد بما خرجت إليه إلا الله فقط، فقالت له: لا بد لي أن أعلم ذلك، وصاحت وناحت وألحت عليه بالطلب، فلما رأى أنه ليس له بدٌّ قال لها: أخبرك بالأمر فاكتميه إذًا، قالت له: قل ولا تبال بذلك، فأخبرها بالقصة على وجهها.
أما ما كان من خزيمة فإنه لما أصبح صالح غرماءه وأصلح شأنه وتجهز للسفر يريد الخليفة سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب وأخبر سليمان بوصول خزيمة بن بشر، وكان سليمان يعرفه جيدًا بالمروءة والكرم فأذن له، فلما دخل خزيمة وسلم عليه بالخلافة قال له سليمان: يا خزيمة ما أبطأك عنا، قال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك النهضة إلينا، قال خزيمة: ضعفي يا أمير المؤمنين وقلة ما بيدي، قال: فكم أنهضك الآن، قال خزيمة: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلَّا والباب يطرق فخرجت فرأيت شخصًا وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال له: أما عرفته، فقال خزيمة: ما سمعت منه يا أمير المؤمنين إلَّا حين سألته عن اسمه قال: أنا جابر عثراث الكرام، فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافأناه على مروءته، ثم قال: علي بالكاتب فحضر إليه، فكتب لخزيمة الولاية على الجزيرة وجميع عمل عكرمة وأجزل له العطاء وأحسن ضيافته، وأمره بالتوجه من وقته إلى الولاية فقبل الأرض خزيمة وتوجه من ساعته إلى الجزيرة.
 فلما قرب منها خرج عكرمة وكان قد بلغه عزله وأقبل لملاقاة خزيمة مع جميع أعيان البلد، وسلموا عليه وساروا جميعا إلى أن دخلوا به البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة ويحاسب، فحوسب ففضل عليه مال كثير فطلبه جزية منه، فقال له عكرمة: والله ما إلى درهم منه سبيل ولا عندي منه دينارًا، فأمر خزيمة بحبسه وأرسل يطالبه بالمال، فأرسل عكرمة يقول له: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت، فأمر خزيمة بقيده وضربه، فكبل بالحديد وضرب وضيق عليه، فأقام كذلك شهرًا فأضناه ذلك وأضر به، فبلغ امرأته ضَرَّهُ فجزعت لذلك واغتمت غمٍّا شديدًا، فدعت جارية لها ذات عقل وقالت لها: اذهبي الساعة إلى باب خزيمة وقولي للحاجب: إن عندي نصيحة للأمير فإذا طلبها منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلت عليه فسليه الخلوة فإذا فعل فقولي له: ما كان هكذا جزاء جابر عثرات الكرام منك بمكافأتك له بالضيق والحبس والحديد ثم بالضرب، ففعلت جاريتها ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه جابر عثرات الكرام غريمي، قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم وسار بهم إلى باب الحبس متغيرًا وقد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة ووجوه أهل البلد أحشمه ذلك فنكس رأسه، فأقبل خزيمة وأكب على رأسه فقبله، فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك، قال خزيمة: كريم فعالك بسوء مكافأتي، فقال له عكرمة: يغفر الله لنا ولك، ثم إن خزيمة أمر بقيوده أن تفك وأن توضع في رجليه نفسه، فقال له عكرمة: ما مرادك بذلك، قال مرادي أن ينالني من الضر ما نالك، فقال له عكرمة: أقسم عليك باالله أن لا تفعل، وبعد ذلك خرجا جميعًا وجاء إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف فلم يمَكِّنه من ذلك، ثم وحمل إليه مالًا كثيرًا وسأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، وكان يومئذ في الرحلة، فسار معه حتى قدما على سليمان، فدخل الحاجب وأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال في نفسه: والي الجزيرة يقدم علينا بدون أمرنا مع قرب العهد به، ما هذا إلا لحادث عظيم، فلما دخل عليه قال: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك، قال: يا أمير المؤمنين إني ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومن هو؟ قال: عكرمة الفياض، فأذن له في الدخول فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه وقال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها فقُضيت على أتم وجه، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وأضاف له شيئًا كثيرًا من التحف والظرف وولاه على الجزيرة وإرمينية وما جاورهما، وقال له: أمر خزيمة بيدك إن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله مكرّمًا يا أمير المؤمنين، ثم إنهما انصرفا جميعًا ولم يزالا عاملَين لسليمان مدة خلافته.

أبو جعفر وأزهر الشاعر

وفد أزهر الشاعر على أبي جعفر فقال له: ما حاجتك، قال جئتك طالبًا، فأمر له باثني عشر ألف درهم وقال: لا تأتنا بعد طالبًا، فأخذها وانصرف، ولما كان بعد سنة أتاه، فقال له أبو جعفر: ما حاجتك يا أزهر، قال: جئت مسلِّما فقال: لا والله بل جئت طالبًا، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفًا فلا تأتنا طالبًا ولا مسلِّما، فأخذها ومضى ولما كان بعد سنة أتاه فقال: ما حاجتك يا أزهر قال: أتيت عائدًا، فقال: لا والله بل جئت طالبًا، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفًا فاذهب ولا تأتنا بعد طالبًا ولا مسلِّما ولا عائدًا، فأخذها وانصرف، فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما حاجتك يا أزهر، قال: يا أمير المؤمنين دعاء كنت أسمعك تدعو به جئت لأكتبه فضحك أبو جعفر وقال: الدعاء الذي تطلبه غير مستجاب فإني دعوت الله به أن لا أراك فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفا. وتعالَ متى شئت فقد أعيتنا الحيلة فيك.

يزيد بن المهلب والعجوز

مر يزيد بن المهلب بعد خروجه من السجن بعجوز أعرابية فذبحت له عنزًا، فقال لابنه: ما معك من النفقة؟ قال: مائة دينار، قال: ادفعها إليها، فقال: هذه يرضيها اليسير وهي لا تعرفك، قال: إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.

يزيد بن المهلب والحلاق

حج يزيد بن المهلب فطلب حلاقًا يحلق رأسه، فجاؤوه بحلاق فحلق رأسه، فأمر له بخمسة آلاف درهم، فدُهش الحلاق وقال: آخذ هذه الخمسة آلاف وأمضي إلى أم فلان أخبرها أني قد استغنيت، فقال: أعطوه خمسة آلاف أخرى، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك.

المعتصم وأبو تمام

دخل أبو تمام الطائي على المعتصم بعد فتوحه عمورية والفوز على محاربيه فامتدحه بقصيدة بليغة أولها:

        السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ ...  في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

وهي قصيدة طويلة عددها ثلاثة وسبعون بيتًا، فأعطاه جائزة عليها ثلاثة وسبعين ألف دينار على كل بيتٍ ألف دينار.


السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِفي حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ فيمُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَة ًبَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافي السَّبْعَة ِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الروايَة ُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَاصَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
تخرُّصاً وأحاديثاً ملفَّقة ًلَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ ولاغَرَبِ
عجائباً زعموا الأيَّامَ مُجْفلة ًعَنْهُنَّ في صَفَرِ الأَصْفَار أَوْ رَجَبِ
وخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَة ٍإذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنبِ
وصيَّروا الأبرجَ العُلْيا مُرتَّبة ًمَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيْرَ مُنْقَلِبِ
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةما دار في فلك منها وفي قُطُبِ
لو بيَّنت قطّ أمراً قبل موقعهلم تُخْفِ ماحلَّ بالأوثان والصلُبِ
فَتْحُ الفُتوحِ تَعَالَى أَنْ يُحيطَ بِهِنَظْمٌ مِن الشعْرِ أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ
فتحٌ تفتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لهُوتبرزُ الأرضُ في أثوابها القُشُبِ
يَا يَوْمَ وَقْعَة ِ عَمُّوريَّة َ انْصَرَفَتْمنكَ المُنى حُفَّلاً معسولة ََ الحلبِ
أبقيْتَ جدَّ بني الإسلامِ في صعدٍوالمُشْرِكينَ ودَارَ الشرْكِ في صَبَبِ
أُمٌّ لَهُمْ لَوْ رَجَوْا أَن تُفْتَدى جَعَلُوافداءها كلَّ أمٍّ منهمُ وأبِ
وبرْزة ِ الوجهِ قدْ أعيتْ رياضتُهَاكِسْرَى وصدَّتْ صُدُوداً عَنْ أَبِي كَرِبِ
بِكْرٌ فَما افْتَرَعَتْهَا كَفُّ حَادِثَة ٍولا ترقَّتْ إليها همَّة ُ النُّوبِ
مِنْ عَهْدِ إِسْكَنْدَرٍ أَوْ قَبل ذَلِكَ قَدْشابتْ نواصي اللَّيالي وهيَ لمْ تشبِ
حَتَّى إذَا مَخَّضَ اللَّهُ السنين لَهَامَخْضَ البِخِيلَة ِ كانَتْ زُبْدَة َ الحِقَبِ
أتتهُمُ الكُربة ُ السَّوداءُ سادرة ًمنها وكان اسمها فرَّاجة َ الكُربِ
جرى لها الفالُ برحاً يومَ أنقرة ِإذْ غودرتْ وحشة ََ الساحاتِ والرِّحبِ
لمَّا رَأَتْ أُخْتَها بِالأَمْسِ قَدْ خَرِبَتْكَانَ الْخَرَابُ لَهَا أَعْدَى من الجَرَبِ
كمْ بينَ حِيطانها من فارسٍ بطلٍقاني الذّوائب من آني دمٍ سربِ
بسُنَّة ِ السَّيفِ والخطيَّ منْ دمهلاسُنَّة ِ الدين وَالإِسْلاَمِ مُخْتَضِبِ
لقد تركتَ أميرَ المؤمنينَ بهاللنَّارِ يوماً ذليلَ الصَّخرِ والخشبِ
غادرتَ فيها بهيمَ اللَّيلِ وهوَ ضُحى ًيَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ
حتَّى كأنَّ جلابيبَ الدُّجى رغبتْعَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَم تَغِبِ
ضوءٌ منَ النَّارِ والظَّلماءُ عاكفة ٌوظُلمة ٌ منَ دخان في ضُحى ً شحبِ
فالشَّمْسُ طَالِعَة ٌ مِنْ ذَا وقدْ أَفَلَتْوالشَّمسُ واجبة ٌ منْ ذا ولمْ تجبِ
تصرَّحَ الدَّهرُ تصريحَ الغمامِ لهاعنْ يومِ هيجاءَ منها طاهرٍ جُنُبِ
لم تَطْلُعِ الشَّمْسُ فيهِ يَومَ ذَاكَ علىبانٍ بأهلٍ وَلَم تَغْرُبْ على عَزَبِ
ما ربعُ ميَّة ََ معموراً يطيفُ بهِغَيْلاَنُ أَبْهَى رُبى ً مِنْ رَبْعِهَا الخَرِبِ
ولا الْخُدُودُ وقدْ أُدْمينَ مِنْ خجَلٍأَشهى إلى ناظِري مِنْ خَدها التَّرِبِ
سَماجَة ً غنِيَتْ مِنَّا العُيون بِهاعنْ كلِّ حُسْنٍ بدا أوْ منظر عجبِ
وحُسْنُ مُنْقَلَبٍ تَبْقى عَوَاقِبُهُجاءتْ بشاشتهُ منْ سوءٍ منقلبِ
لوْ يعلمُ الكفرُ كمْ منْ أعصرٍ كمنتْلَهُ العَواقِبُ بَيْنَ السُّمْرِ والقُضُبِ
تَدْبيرُ مُعْتَصِمٍ بِاللَّهِ مُنْتَقِمِللهِ مرتقبٍ في الله مُرتغبِ
ومُطعَمِ النَّصرِ لَمْ تَكْهَمْ أَسِنَّتُهُيوماً ولاَ حُجبتْ عنْ روحِ محتجبِ
لَمْ يَغْزُ قَوْماً، ولَمْ يَنْهَدْ إلَى بَلَدٍإلاَّ تقدَّمهُ جيشٌ من الرَّعبِ
لوْ لمْ يقدْ جحفلاً، يومَ الوغى ، لغدامنْ نفسهِ، وحدها، في جحفلٍ لجبِ
رمى بكَ اللهُ بُرْجَيْها فهدَّمهاولوْ رمى بكَ غيرُ اللهِ لمْ يصبِ
مِنْ بَعْدِ ما أَشَّبُوها واثقينَ بِهَاواللهُ مفتاحُ باب المعقل الأشبِ
وقال ذُو أَمْرِهِمْ لا مَرْتَعٌ صَدَدٌللسارحينَ وليسَ الوردُ منْ كثبِ
أمانياً سلبتهمْ نجحَ هاجسهاظُبَى السيوفِ وأطراف القنا السُّلُبِ
إنَّ الحمامينِ منْ بيضٍ ومنْ سُمُرٍدَلْوَا الحياتين مِن مَاءٍ ومن عُشُبٍ
لَبَّيْتَ صَوْتاً زِبَطْرِيّاً هَرَقْتَ لَهُكأسَ الكرى ورُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ
عداك حرُّ الثغورِ المستضامة ِ عنْبردِ الثُّغور وعنْ سلسالها الحصبِ
أجبتهُ مُعلناً بالسَّيفِ مُنصَلتاًوَلَوْ أَجَبْتَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَمْ تُجِبِ
حتّى تَرَكْتَ عَمود الشرْكِ مُنْعَفِراًولم تُعرِّجْ على الأوتادِ والطُّنُبِ
لمَّا رأى الحربَ رأْي العينِ تُوفلِسٌوالحَرْبُ مَشْتَقَّة ُ المَعْنَى مِنَ الحَرَبِ
غَدَا يُصَرِّفُ بِالأَمْوال جِرْيَتَهافَعَزَّهُ البَحْرُ ذُو التَّيارِ والحَدَبِ
هَيْهَاتَ! زُعْزعَتِ الأَرْضُ الوَقُورُ بِهِعن غزْوِ مُحْتَسِبٍ لا غزْو مُكتسبِ
لمْ يُنفق الذهبَ المُربي بكثرتهِعلى الحصى وبهِ فقْرٌ إلى الذَّهبِ
إنَّ الأُسُودَ أسودَ الغيلِ همَّتُهايوم الكريهة ِ في المسلوب لا السَّلبِ
وَلَّى ، وَقَدْ أَلجَمَ الخطيُّ مَنْطِقَهُبِسَكْتَة ٍ تَحْتَها الأَحْشَاءُ في صخَبِ
أَحْذَى قَرَابينه صَرْفَ الرَّدَى ومَضىيَحْتَثُّ أَنْجى مَطَاياهُ مِن الهَرَبِ
موكِّلاً بيفاعِ الأرضِ يُشرفهُمِنْ خِفّة ِ الخَوْفِ لا مِنْ خِفَّة ِ الطرَبِ
إنْ يَعْدُ مِنْ حَرهَا عَدْوَ الظَّلِيم، فَقَدْأوسعتَ جاحمها منْ كثرة ِ الحطبِ
تِسْعُونَ أَلْفاً كآسادِ الشَّرَى نَضِجَتْجُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التينِ والعِنَبِ
يا رُبَّ حوباءَ لمَّا اجتثَّ دابرهمْطابَتْ ولَوْ ضُمخَتْ بالمِسْكِ لم تَطِبِ
ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِيضُ السُّيُوفِ بِهِحيَّ الرِّضا منْ رداهمْ ميِّتَ الغضبِ
والحَرْبُ قائمَة ٌ في مأْزِقٍ لَجِجٍتجثُو القيامُ بهِ صُغراً على الرُّكبِ
كمْ نيلَ تحتَ سناها من سنا قمرٍوتَحْتَ عارِضِها مِنْ عَارِضٍ شَنِبِ
كمْ كان في قطعِ أسباب الرِّقاب بهاإلى المخدَّرة ِ العذراءِ منَ سببِ
كَمْ أَحْرَزَتْ قُضُبُ الهنْدِي مُصْلَتَة ًتهتزُّ منْ قُضُبٍ تهتزُّ في كُثُبِ
بيضٌ، إذا انتُضيتْ من حُجبها، رجعتْأحقُّ بالبيض أتراباً منَ الحُجُبِ
خَلِيفَة َ اللَّهِ جازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَنْجُرْثُومَة ِ الديْنِ والإِسْلاَمِ والحَسَبِ
بصُرْتَ بالرَّاحة ِ الكُبرى فلمْ ترهاتُنالُ إلاَّ على جسرٍ منَ التَّعبِ
إن كان بينَ صُرُوفِ الدَّهرِ من رحمٍموصولة ٍ أوْ ذمامٍ غيرِ مُنقضبِ
فبَيْنَ أيَّامِكَ اللاَّتي نُصِرْتَ بِهَاوبَيْنَ أيَّامِ بَدْر أَقْرَبُ النَّسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْرَاضِ كاسِمِهمُصُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ

المهدي وإبراهيم بن طهمان

كان لإبراهيم بن طهمان جراية من بيت المال فاخرة وكان يفخر بذلك، فسُئل يومًا في مجلس الخليفة عن مسألة، فقال: لا أدري، فقالوا: تأخذ في كل يوم كذا وكذا ولا تحسن مسألةً، فقال: إنما أخذت على ما أحُسن ولو آخذ على ما لا أحُسن لفني بيت المال ولا يفنى ما لا أدري. فأعجب أمير المؤمنين جوابه وأمر له بجائزة فاخرة وزاد في جرايته.

المهدي والمختبئان

لما فرغ المهدي من بناء عيساباذ ركب في جماعة يسيرة لينظر البلد، فدخله مفاجأة وأخرج من كان هناك من الناس وبقي رجلان خفيا عن أبصار الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وقد دُهش بالعقل، فقال: من أنت؟ قال: أنا أنا، فقال: ويلك من أنت؟ قال: لا أدري، قال: ألك حاجة؟ قال: لا لا، قال: أخرجوه أخرج الله نفسك، فلما خرج قال لغلام له: اتبعه من حيث لا يعلم فسل عن أمره ومهنته فإني أخاله حائكًا، فخرج الغلام على أثره، ثم رأى الآخر فاستنطقه، فأجاب بقلب جريء، ولسان سليط، فقال: من أنت؟ قال: رجل من أبناء رجال دعوتك، قال: من جاء بك إلى ههنا؟ قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء الحسن فأتمتع بالنظر، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام النعمة ونماء العز والسلامة، قال: أفلك حاجة؟ قال: نعم، خطبت ابنة عم لي فردني أبوها، وقال: لا مال لك والناس يرغبون في المال، وأنا بها مشغوف ولها وامق، قال: قد أمرت لك بخمسين ألف درهم، قال: جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين، لقد وصلت فأجزلت الصلة ومننت فأعظمت المنة، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه وآخر أيامك خيرًا من أولها، ومتعك بما أنعم به عليك وأمتع رعيتك بك. فأمر أن تعجل له الصلة ووجه بعض خاصته وقال: اسأل عن مهنته فإني أخاله كاتبًا، فرجع الرسولان معًا، فقال الأول: وجدنا الأول حائكًا، وقال الآخر: وجدت الرجل كاتبًا، فقال المهدي: لم تخفَ عليَّ مخاطبة الكاتب والحائك.

جود المهدي

خرج المهدي ذات يوم متنزهًا إلى الأنبار، وبينما هو في مجلسه دخل عليه الربيع ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين عُجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من هذه الرقعة جاءني بها أعرابي وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين المهدي دلوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه وهذه الرقعة، فأخذها المهدي وضحك وقال: صدق وهذا خطي وهذا خاتمي، أفلا أخبركم بالقصة، قلنا: رأي الأمير أعلى منا في ذلك، قال: خرجت أمس إلى الصيد في غب سماءٍ، فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحدًا، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما لا يعلمه إلا الله وتحيرت عند ذلك، فذكرت دعاءً سمعته من أبي يحكيه عن أبيه قال إذا أصبح وإذا أمسى: بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقى وشفى وكفى من الحرق والغرق والفرَق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها رفع لي ضوء نار فقصدتها، فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له يوقد نارًا بين يديه، فقلت: أيها الأعرابي هل من ضيافة؟ قال: انزل، فنزلت، فقال لزوجته: هاتِ ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه، فابتدأت تطحنه، فقلت له: اسقني ماءً، فأتاني بسقاء فيه مذقة من لبن أكثره ماء، فشربت منها شربة ما شربت أطيب منها، وأعطاني حلسًا له فوضعت رأسي عليه ونمت، ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شاة فذبحها، فإذا امرأته تقول له: ويحك قتلت نفسك وصبيتك إنما كان معاشك من هذه الشاة فذبحتها، فبأى شيء تعيش؟ فقلت: لا عليك هات الشاة فشققت جوفها واستخرجت كبدها بسكين في خفى، فشرحتها ثم طرحتها على النار فأكلت، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب فيه؟ فجاءني بهذه القطعة، فأخذت عودًا من الرماد الذي كان بين يديه فكتبت له هذا الكتاب وختمته بها الخاتم وأمرتهُ أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه، فإذا في الرقعة خمسمائة ألف درهم، فقال: لا والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جرت يدي بخمسمائة ألف درهم ولا أنقص والله منها درهمًا واحدًا، ولو لم يكن في بيت المال غيرها احملوها معه.
 فما كان إلا قليلًا حتى كثرت إبله وصار منزلًا من المنازل ينزله كل من أراد الحج من الأنبار إلى مكة المكرمة، وسُمي مضيف أمير المؤمنين المهدي.

المهدي والأعرابي

قيل: إن المهدي قعد قعودًا عامٍّا للناس، فدخل رجل في يده نعل ومنديل فقال: يا أمير المؤمنين هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها إليك، قال: هاتها فدفعها إليه فقبّل باطنها ورفعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم، فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه: أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرَها، فضلًا عن أن يكون لبسها، ولو كذبناه لقال للناس: أتيتُ أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّها عليّ، فكان من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره، إذ كان من شأن العامة وأشكالها النصرة للضعيف على القوي، فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدقنا قوله ورأينا فعلنا أنجح وأرجح.

كرم حاتم الطائي بعد الوفاة

يحكى عن حاتم الطائي أنه لما مات دُفن في رأس جبل وعملوا على قبره حوضين من حجرين ورسوم بنات محلولات الشعور من حجر، وكان تحت ذلك الجبل نهر جارٍ، فإذا نزلت الوفود يسمعون الصراخ في الليل من العشاء إلى الصباح، فإذا أصبحوا لم يجدوا أحدًا غير البنات المصورة من الحجر.
 فلما نزل ذو الكراع ملك حمير بذلك الوادي خارجًا عن عشيرته بات تلك الليلة هناك، وتقرب من ذلك الموضع، فسمع الصراخ فقال: ما هذا العويل الذي فوق هذا الجبل؟ فقالوا له: إن هذا قبر حاتم الطائي وإن عليه حوضين من حجر ورسوم بنات من حجر محلولات الشعور، وكل ليلة يسمع النازلون في هذا المكان هذا العويل والصراخ، فقال ذو الكراع ملك حمير يهزأ بحاتم الطائي: يا حاتم نحن الليلة ضيوفك ونحن خماص، قال: فغلب عليه النوم، ثم استيقظ وهو مرعوب وقال: يا عرب الحقوني وأدركوا راحلتي، فلما جاءوا وجدوا الناقة تضطرب فذبحوها وشووا لحمها وأكلوا، ثم سألوه عن سبب ذلك فقال: غفلت عيني فرأيت في منامي حاتم الطائي وقد جاءني بسيف وقال: جئتنا ولم يكن عندنا شيء، وضرب ناقتي بالسيف، فلو لم تحصلوها وتنحروها لماتت، فلما أصبح الصباح ركب ذو الكراع راحلة واحد من أصحابه وأردفه خلفه، فلما كانوا وسط النهار رأوا راكبًا على راحلة وفي يده راحلة أخرى، فقالوا له من أنت؟ فقال أنا عدي ابن حاتم الطائي، ثم قال أين ذو الكراع أمير حمير؟ فقالوا له: هذا هو، فقال: اركب هذه الناقة عوضًا عن راحلتك فإن ناقتك قد ذبحها أبي لك، قال ومن أخبرك، قال: أتاني الليلة في المنام وقال لي: يا عدي إن ذا الكراع ملك حمير استضافني فنحرت له ناقته فأدركه بناقة يركبها، فإني لم يكن عندي شيء، فأخذها ذو الكراع وتعجب من كرم حاتم حيٍّا وميتًا.

حاتم وامرأته ماوية

قيل: إن حاتمًا الطائي لما كان متزوجًا بماوية بنت عفير كانت تلومه كثيرًا على إتلاف المال فلا يلتفت إلى قولها ولا يكترث به، وكان لها ابن عم يقال له مالك فقال لها يومًا: ما تصنعين بحاتم؟ فولله لئن وجد مالًا ليتلفنه وإن لم يجد ليتكلفن، ولئن مات ليتركن أولاده عالة على قومك، فقالت ماوية: صدقت إنه كذلك. وكنَّ يطلقن الرجال في الجاهلية، وذلك أن يقمن ضمن بيت من شعر فإن كان باب البيت من قبل المشرق حولته إلى المغرب وإن كان من قبل المغرب حولته إلى المشرق، وإن كان من قبل اليمن حولته إلى الشام وإن كان من قبل الشام حولته إلى اليمن، فإذا رأى الرجل ذلك علم أنها طلقته فلم يأتها، ثم قال لها ابن عمها طلقي حاتمًا وأنا أتزوجك فإني خير لك منه وأكثر مالًا وأقل تبذيرًا، فلم يزل بها حتى طلقته فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال حاتم لولده: يا عدي أترى ما فعلت أمك؟ فقال: قد رأيت ذلك، فأخذ ابنه وهبط بطن وادٍ فنزل فيه فجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون وكانت عدتهم خمسين فارسًا فضاقت بهم ماوية ذرعًا وقالت لجاريتها: اذهبي إلى ابن عمي وقولي له: إن أضيافًا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلًا فأرسل لنا بشيء نقريهم ولبن نسقيهم، وقالت لها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإنضرب بلحيته على زوره ولطم رأسه فأقبلي ودعيه، فلما أتته وجدته متوسدًا وطبٍّا من لبن، فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت له: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكان حاتم، فلطم رأسه بيده وضرب بلحيته وقال أقرئيها السلام وقولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتمًا لأجله وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم، فرجعت الجارية، فأخبرتها بما رأت وما قال لها، فقالت لها: اذهبي إلى حاتم وقولي له: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة ولم يعلموا مكانك فأرسل إلينا بناقة نقريهم ولبن نسقيهم، فأتت الجارية حاتمًا فصاحت به، فقال: لبيك ماذا تريدين؟ فأخبرته بما جاءت بسببه، فقال لها: حبٍّا وكرامة، ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقالهما وصاح بهما حتى أتيا الخباء ثم ضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح: هذا الذي طلقتك بسببه تترك أولادنا وليس لهم شيء، فقال لها: ويحك يا ماوية، الذي خلقهم وخلق العالم بأسره متكفل بأرزاقهم.

ملك الروم وحاتم الطائي

من أعجب ما حكي عن حاتم الطائي أن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار حاتم فاستغرب ذلك، وكان قد بلغه أن لحاتم فرسًا من كرام الخيل عزيزة عنده، فأرسل إليه بعض حجابه يطلب منه الفرس هديةً إليه وهو يريد أن يمتحن سماحته بذلك، فلما دخل الحاجب ديار طيئ سأل عن أبيات حاتم حتى دخل عليه، فاستقبله ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب الملك، وكانت المواشي حينئذ في المراعي فلم يجد إليها سبيلًا لقرى ضيفه فنحر الفرس وأضرم النار، ثم دخل إلى ضيفه يحادثه فأعلمه أنه رسول قيصر، وقد حضر يستميح الفرس، فساء ذلك حاتمًا وقال: هلَّا أعملتني قبل الآن فإني قد نحرتها لك إذ لم أجد جزورًا غيرها بين يدي، فعجب الرسول من سخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا.

كرم حاتم

أغار قوم على طيئ فركب حاتم فرسه وأخذ رمحه ونادى في جيشه وأهل عشيرته، ولقي القوم فهزمهم وتبعهم فقال له كبيرهم: يا حاتم هبني رمحك فرمى به إليه، فقيل لحاتم: عرضت نفسك للهلاك ولو عطف عليك لقتلك، فقال: قد علمت ذلك ولكن ما جواب من يقول: هب لي؟

معن وأحد العامة

خرج معن بن زائدة يومًا في جماعة إلى الصيد، فقرب منهم قطيع ظباء فافترقوا في طلبه، وانفرد معن خلف ظبي، فلما ظفر به نزل فذبحه، فرأى شخصًا مقبلًا من البرية على حمار فركب فرسه واستقبله، فسلم عليه وقال له: من أين أتيت؟ قال له: أتيت من أرض قضاعة وإن لها مدة من السنين مجدبة، وقد أخصبت في هذه السنة فزرعت فيها قثاء، وقصدت الأمير معن بن زائدة لكرمه المشهور، ومعروفه المأثور، فقال له: كم أملت منه؟ قال: ألف دينار، قال له: إن قال لك هذا القدر كثير، فقال: خمسمائة دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: ثلاثمائة دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: مائتا دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: مائة دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: خمسين دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: ثلاثين دينار، قال: فإن قال لك كثير، قال: أدخلت قوائم حماري في فكه وأرجع إلى أهلي خائبًا صفر اليدين، فضحك معن منه وساق جواده حتى لحق بعسكره ونزل في منزله وقال لحاجبه: إذا أتاك شخص على حمار بقثاء، فأدخله عليّ، فأتى ذلك الرجل بعد ساعة فأذن له الحاجب في الدخول، فلما دخل على الأمير معن لم يعرف أنه هو الذي قابله في البرية لهيبته وجلالته وكثرة خدمه وحشمه وهو متصدر في دست مملكته والحفدة قيام عن يمينه وعن شماله وبين يديه، فلما سلم عليه قال له الأمير: ما الذي أتى بك يا أخا العرب، قال: أملت الأمير وأتيت له بقثاء في غير أوانها، فقال له: وكم أملت منا، قال: ألف دينار، قال: هذا القدر كثير، قال: خمسمائة دينار قال: كثير، قال: ثلاثمائة دينار، قال: كثير، قال: مائتا دينار، قال: كثير، قال: مائة دينار، قال: كثير، قال: خمسين دينارا، قال: كثير، قال: ثلاثين دينارا قال: كثير، قال: والله لقد كان ذاك الرجل الذي قابلني في البرية مشؤومًا، أفلا أقل من ثلاثين دينارًا، فضحك معن وسكت فعلم الأعرابي أن هذا الرجل الذي قابله في البرية، فقال له: يا سيدي إذا لم تجئ بالثلاثين دينارا فها هو الحمار مربوط بالباب وها معن جالس، فضحك معن حتى استلقى على قفاه، ثم استدعى وكيله وقال له: أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائتي دينار وخمسين دينارًا وثلاثين دينارًا ودع الحمار مربوطًا مكانه، فبُهت الأعرابي وتسلم الألفين ومائة دينار وثمانين دينارًا.

معن وبعض فصحاء العرب

دخل بعض فصحاء العرب على معن فقال: أصلح الله الأمير لو شئت أن أتوسل إليك ببعض من يثقل عليك لوجدت ذلك سهلًا عليك، ولكن استشفعت بقدرك واستعنت عليك بفضلك، فإن أردت أن تضعني من كرمك حيث وضعت نفسي من رحلك، فإني لم أكرم نفسي عن مسألتك فأكرم وجهك عن ردي، فقال: سل حاجتك، قال: ألف درهم، قال: ربحت عليك ربحًا مبينًا، قال: مثلك لا يربح على سائله، قال: أضعفوا له ما سأل.

إجارة معن لرجل استغاث به من المنصور

روي أن أمير المؤمنين المنصور أهدر دم رجل كان يسعى بفساد دولته مع الخوارج من أهل الكوفة، وجعل لمن دلَّ عليه أو جاء به مائة ألف درهم، ثم إن الرجل ظهر في بغداد، فبينما هو يمشي مختفيًا في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فأخذ بمجامع ثيابه وقال: هذا بغية أمير المؤمنين، فبينما الرجل على هذه الحالة إذ سمع وقع حوافر الخيل فالتفت فإذا معن بن زائدة، فاستغاث به وقال له: أجرني أجارك لله، فالتفت معن إلى الرجل المتعلق به وقال له: ما شأنك وهذا؟ فقال له: إنه بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وجعل لمن دلَّ عليه مائة ألف درهم، فقال: دعه، وقال لغلامه: انزل عن دابتك واحمل الرجل عليها، فصاح الرجل المتعلق وصرخ واستجار بالناس وقال: حال بيني وبين بغية أمير المؤمنين، فقال له معن: اذهب فقل لأمير المؤمنين وأخبره أنه عندي، فانطلق الرجل إلى المنصور فأخبره، فأمر المنصور بإحضار معن في الساعة، فلما وصل أمر المنصور إلى معن دعا جميع أهل بيته ومواليه وأولاده وأقاربه وحاشيته وجميع من يلوذ به وقال لهم: أقسم عليكم بأن لا يصل إلى هذا الرجل مكروه أبدًا وفيكم عين تطرف، ثم إنه سار إلى المنصور فدخل وسلم عليه فلم يرد عليه المنصور السلام، ثم إن المنصور قال له: يا معن أتتجرأ عليّ، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: ونعم أيضًا، وقد اشتد غضبه، فقال معن: يا أمير المؤمنين كم من مرة تقدم في دولتكم بلائي وحسن عنائي، وكم من مرة خاطرت بدمي أفما رأيتم أهلًا بأن يوهب لي رجل واحد استجار بي بين الناس بوهمه أنه عبد من عبيد أمير المؤمنين وكذلك هو، فمر بما شئت ها أنا بين يديك، فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقد سكن ما به من الغضب وقال له: قد أجرناكه يا معن، قفال له معن: إن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بين الأجرين فيأمر له بصلة فيكون قد أحياه وأغناه، فقال المنصور: قد أمرنا له بخمسين ألف درهم، فقال له معن: إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية، وإن ذنب الرجل عظيم فأجذل صلته، قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم، فقال له معن: عجل بها يا أمير المؤمنين، فإن خير البر عاجله، فأمر له بتعجيلها، فحملها وانصرف وأتى منزله وقال للرجل: يا رجل خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة الخلفاء في أمورهم بعد هذه.

عفو معن بن زائدة عن أسراه

قيل: إن معن بن زائدة قبض على عدة من الأسرى فعرضهم على السيف، فالتفت إليه بعضهم وقال له: أصلح الله الأمير، لا تجمع علينا بين الجوع والعطش ثم القتل، فوالله إن كرم الأمير يبعد عن ذلك، فأمر لهم حينئذ بطعام وشراب فأكلوا وشربوا ومعن ينظر إليهم، فلما فرغوا من أكلهم قالوا له: أيها الأمير أطال الله بقاءك إننا قد كنا أسراك والآن صرنا ضيوفك، فانظر كيف تصنع بضيوفك، فعند ذلك قال لهم معن: قد عفوت عنكم، فقال أحدهم: والله أيها الأمير إن عفوك عنا أشرف من يوم ظفرك بنا، فأمر لكلٍّ منهم بكسوة ومال.

يحيى بن خالد وأحد الشعراء

دخل أحد الشعراء على يحيى بن خالد البرمكي فأنشده:

سألتُ النَّدى هل أنت حُرٌّ؟ فقال: لا .... ولكنني عبدٌ ليحيى بن خالدِ
فقلتُ شراءً؟، فقال:لا، بل وراثة ً.... توارثني من والدٍ بعدَ والدِ 

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

الكتاب المزور

كان بين يحيى بن خالد وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها، وسبب العداوة بينهما أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك محبةً عظيمةً، بحيث إن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون: إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان طويل والحقد في قلوبهما، فاتفق أن الرشيد قلد ولاية أرمينية لعبد الله بن مالك الخزاعي وسيره إليها، فلما استقر في يختها قصده رجل من أهل العراق كان فيه فضل وأدب وذكاء وفطنة، إلا أنه ضاق ما بيده وفني ماله واضمحل حاله فزور كتابًا على يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر إليه في أرمينية.
فلما وصل إلى بابه سلم الكتاب إلى بعض حجابه، فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، ففتحه وقرأه وتدبره فعلم أنه مزور، فأمر بإحضار الرجل فلما تمثل بين يديهِ دعا له وأثنى عليه وعلى أهل مجلسه، فقال له عبد الله بن مالك: ما حملك مع بُعد المشقة على مجيئك إليَّ بكتاب مزور، ولكن طب نفسًا، فإننا لا نخيب سعيك، فقال الرجل: أطال الله بقاء مولانا الوزير إن كان ثقل عليك وصولي فلا تحتجّ في منعي بحجة، فإن أرض الله واسعة، والرازق حي، والكتاب الذي أوصلته إليك من يحيى بن خالد صحيح غير مزور، فقال عبد الله: أنا أكتب كتابًا لوكيلي ببغداد وآمره فيه أن يسأل عن حال هذا الكتاب الذي أتيتني به فإن كان ذلك حقٍّا صحيحًا غير مزور قلدتك إمارة بعض بلادي وأعطيتك مائتي ألف درهم مع الخيل والنجب الجليلة، وإن كان الكتاب مزورًا أمرت بأن تضرب مائتي خشبة وأن تحلق لحيتك، ثم أمر عبد الله أن يُحمل إلى حجرة وأن يجعل له فيها ما يحتاج إليه حتى يحقق أمره، ثم كتب كتابًا إلى وكيله ببغداد مضمونه: إنه قد وصل إليَّ رجل ومعه كتاب يزعم أنه من يحيى بن خالد وأنا أسيءُ الظن بهذا الكتاب، فيجب أن لا تهمل هذا الأمر بل تمضي بنفسك وتتحقق أمر هذا الكتاب وتسرع إليَّ برد الجواد لأجل أن نعلم صدقه من كذبه.
فلما وصل إليه الكتاب ببغداد ركب من ساعته ومضى إلى دار يحيى بن خالد، فوجده جالسًا مع ندمائه وخواصه، فسلم عليه وسلم إليه الكتاب، فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل: عد إليَّ من الغد حتى أكتب لك الجواب، ثم التفت إلى ندمائه بعد انصراف الوكيل وقال: ما جزاء من تحمل عني كتابًا مزورًا وذهب به إلى عدوِّي، فقال كل واحد من ندمائه مقالًا، وجعل كل واحد منهم يذكر نوعًا من العذاب، فقال لهم يحيى: قد أخطأتم فيما ذكرتم، وهذا الذي أشرتم به من دناءة الهمم وخستها، وكلكم تعرفون منزلة عبد الله من أمير المؤمنين، وتعلمون ما بيني وبينه من الغضب والعداوة، وقد سَبَّبَ الله تعالى هذا الرجل وجعله واسطة في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليخمد نار الحقد من قلوبنا وهي تتزايد من مدة عشرين سنة، وتصلح واسطته شئوننا، وقد وجب عليَّ أن أفي لهذا الرجل بتحقيق ظنونه وإصلاح شئونه وأكتب له كتابًا إلى عبد الله بن مالك الخزاعي مضمونه: أن يزيد في إكرامه ويستمر على إعزازه واحترامه، فلما سمع الندماء ذلك دعوا له بالخيرات وتعجبوا من كرمه ووفور مروَّءتِهِ. ثم إنه طلب الورقة والدواة وكتب إلى عبد الله كتابًا بخط يده مضمونه:

بسم الله الرحمن الرحيم،
وصل كتابك أطال الله بقاك وسررت بسلامتك وابتهجت باستقامتك وشمول سعادتك، وكان ظنك أن ذلك الرجل الحر زوَّر عني كتابًا ولم يحمل مني خطابًا، وليس الأمر كذلك، فإن الكتاب أنا كتبته وليس بمزور ورجائي من إكرامك وإحسانك وحسن شيمتك أن تفي لذلك الرجل الحر الكريم بأمله وأمنيته وترى له حق حرمته وتوصله إلى غرضه، وأن تخصه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان، ومهما فعلته فأنا المقصود به والشاكر عليه.

ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه إلى الوكيل، فأنفذه الوكيل إلى عبد الله، فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر ذلك الرجل وقال له: أي الأمرين اللَّذَين وعدتك بهما أحب إليك لأحضره لك بين يديك، فقال الرجل: العطاء أحَّبُ إليَّ من كل شيء، فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية خمسة منها بالجلال الحرير وخمسة بمروج المواكب المحلاة، وبعشرين تختًا من الثياب وعشرة من المماليك ركاب خيل، وما يليق بذلك من الجواهر الثمينة، ثم خلع عليه وأحسن إليه ووجهه إلى بغداد في هيئة عظيمة.

فلما وصل إلى بغداد قصد دار يحيى بن خالد قبل أن يصل إلى أهله وطلب الإذن في الدخول عليه، فدخل الحاجب إلى يحيى وقال له: يا مولاي إن ببابنا رجلًا ظاهر الحشمة جميل الخلقة حسن الحال كثير الغلمان يريد الدخول عليك، فأذن له بالدخول، فلما دخل عليه قبَّل الأرضبين يديه، فقال له يحيى: من أنت، فقال له الرجل: أيها السيد أنا الذي كنت ميتًا من جور الزمان فأحييتني من رمس النوائب وبعثتني إلى جنة المطالب، أنا الذي زوَّرت كتابًا عنك وأوصلته إلى عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال له يحيى: ما الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك؟ فقال: أعطاني من يدك وجميل طويتك وشمول نعمك وعموم كرمك وعلو همتك وواسع فضلك حتى أغناني وخولني وهداني، وقد حملت جميع عطيته ومواهبه، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يدك، فقال له يحيى: إن صنيعك معي أجمل من صنيعي معك، ولك عليَّ المنة العظيمة واليد البيضاء الجميمة، حيث بدلت العداوة التي كانت بيني وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة والمودة، فها أنا أهب لك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك، ثم أمر له من المال والخيل والتخوت بمثل ما أعطاه عبد الله، فعادت لذلك الرجل نعمته كما كانت بمروءة هذين الكريمين.

سعيد بن سالم الباهلي مع الفضل وجعفر

قال سعيد بن سالم الباهلي: اشتد بي الحال في مرض هارون الرشيد واجتمع عليَّ ديونٌ كثيرةٌ أثقلت ظهري وعجزت عن قضائها، وضاقت حيلي، وبقيت متحيرًا لا أدري ما أصنع حيث عسر عليَّ أداؤها عسرًا عظيمًا، واحتاطت ببابي أرباب الديون، وتزاحم عليّ المطالبون ولازمني الوفاء، فضاقت حيلي وازدادت فكرتي، فلما رأيت الأمور متعسرة، والأحوال متغيرة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي والتمست منه أن يمدني برأيه، ويرشدني إلى باب الفرج بحسن تدبيره، فقال عبد الله بن مالك الخزاعي: لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمك إلا البرامكة، فقلت: ومن يقدر على احتمال تكبرهم ويصبر على تجبرهم؟ فقال: تحمَّل ذلك لأجل إصلاح حالك، فنهضت من عنده ومضيت إلى الفضل وجعفر ولدي يحيى بن خالد وقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما حالتي، فقالا: أسعدك الله بعونه وأغناك عن خلقه بمنه، وأجزل لك عظيم خيره، وقام لك بالكفاية دون غيره، إنه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.
فانصرفت من عندهما ورجعت إلى عبد الله بن مالك ضيق الصدر متحير الفكر منكسر القلب وأعدت ما قالاه، فقال: ينبغي أن تقيم اليوم عندنا لننظر ما يقدره لله تعالى، فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل وقال: يا سيدي إن ببابنا بغالًا كثيرةً بأحمالها ومعها رجل يقول: أنا وكيل الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى، فقال عبد الله بن مالك: أرجو أن يكون الفرج قد أقبل عليك، فقم وانظر ما الشأن، فنهضت من عنده وأسرعت عدوًا إلى بيتي، فرأيت رجلًا معه رقعة مكتوبٌ فيها: إنك لما كنت عندنا وسمعنا كلامك توجهنا بعد خروجك إلى الخليفة وعرفناه أنه أفضى بك الحال إلى ذل السؤال، فأمرنا أن نحمل إليك من بيت المال ألف درهم، فقلنا له: هذه الدراهم يصرفها إلى غرمائه ويؤدي بها دينه، ومن أين يقيم وجه نفقاته؟ فأمر لك بثلاثمائة ألف درهم أخرى، وقد حمل إليك كل واحد منا من خالص ماله ألف ألف درهم فصارت الجملة ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم تصلح بها أحوالك وأمورك، فانظر إلى هذا الكرم العظيم.


العطايا الثلاث التي وهبها الرشيد ويحيى وولداه

حج هارون الرشيد مرة ومعه يحيى بن خالد وولداه الفضل وجعفر، فلما وصلوا إلى المدينة جلس الرشيد ومعه يحيى فأعطيا الناس، وجلس الأمين ومعه الفضل بن يحيى فأعطيا الناس، وجلس المأمون ومعه جعفر فأعطيا الناس، فأعطوا في تلك السنة ثلاث أعطيات ضُربت بكثرتها الأمثال، وكانوا يسمونه عام الأعطيات الثلات، وأُثري الناس بسبب ذلك.

حديث البرامكة في السجن

قال ابن خالد البرمكي لأبيه يحيى وهم في القيود، ولبس الصوف، والحبس: يا أبتاه بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة، أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس، فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.

هبات الفضل بن يحيى

وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعاتبه أبوه في هذا، فقال: إن هذا صحبني وأنا لا أملك شيئًا، واجتهد في نصيحتي، وقال الشاعر:

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يَألَفُهُم في المنزل الخَشِنِ

يحيى بن خالد وأحد التجار

اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال:

سأرسلُ بيتا ً ليس في الشِّعر مثلَهُ ... يقطعُ أعناقَ البيوتِ الشَّوارِدِ
أقام الندى، والبأسُ في كل منزلٍ...أقام به الفضل بن يحيى بن خالدِ

فأمر له بمائة ألف درهم.

ابن العلويّ والفضل

قال عبد الله بن العلويِّ أتيت الفضل بن يحيى فأكرمني وأجلسني معه على فراشه، فكلمته في دَيْني ليكلم أمير المؤمنين في قضائه عني، قال: وكم دينك؟ قلت: ثلاثمائة ألف درهم، قال: نعم،  فخرجت من عنده وأنا مغموم لضعف ردِّه عليَّ، فمررت ببعض إخواني مستريحًا إليهِ، ثمصرت إلى منزلي فوجدت المال قد سبقني من ماله خاصةً.

الفضل بن يحيى وزائره

 بينما كان الفضل بن يحيى في مجلسه محاطًا بالوزراء والأحشاد أتاه الحاجب فقال: إن بالباب رجلًا قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يدًا عليك يكاد يميته كتمانها، فقال: أدخلهُ، فدخل رجل جميل رث الثياب، فسلم بأفصح لسان، فأومأ إليه بالجلوس، فجلس، فسألهُ: ما حاجتك؟ قال: هل رأيت ما أنا عليه من رثاثة الثياب وضيق ذات اليد؟ قال: أجل، فما الذي لك علينا وقد كاد يقضي عليك كتمانه؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك، قال: أما الجوار فقد يمكن حصول ما ذكرت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أن يوم ولادتي كان موافقًا يوم ولادتك، وأن والدك سماك الفضل فسمتني فضيلًا إعظامًا لاسمك وخشية أن ألحق بعالي مجدك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون، قال: صدقت هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما حال أمك؟ قال: توفيت رحمها الله، قال: فما منعك عن اللحوق بنا فيما مضى؟ قال: لم أرضَ بمقابلتك في زمن حداثة يقعدني عن لقاء الملوك، قال: يا غلام أعطه لكل عام من سنيهِ ألفًا، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له، فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله